الدكتور محمد احمد النابلسي
الأمين العام للاتحاد العربي للعلوم النفسية
مقدمة
خلف سقوط الاتحاد السوفياتي فراغا عالميا جعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي في العالم.بما اغرى رئيسها جورج بوش باطلاق مصطلح النظام العالمي الجديد لتأكيد سطوة الولايات المتحدة وجبروتها العسكري. الذي كرسته حرب الخليج الثانية. التي ذهب بعضهم لاعتبارها الحرب العالمية الثالثة. استنادا الى عدد الدول المشاركة فيها والى كمية الاسلحة المستخدمة خلالها. وعلى الرغم من الاحراجات الدبلوماسية والاخلاقية التي سببها قرار الحرب الاميركي فان الجبار الاميركي لم يتوقف عن الشكوى. وتركزت شكاويه على الامور التالية بصورة خاصة:
1. انه لايحظى بنفوذ سياسي يتناسب وتفوق قدراته العسكرية. بما يعكس عدم كفايته بالرغم من قدرته على جر دول عديدة الى تلك الحرب بضغوطات نفوذه وقوته الاقتصادية والعسكرية والسياسية. فقد كانت كل من فرنسا وروسيا تبذلان المستحيل من الجهود لمنع هذه الحرب. ليس فقط لاضرارها بمصالحهما ولكن ايضا لوعيهما ان هذه الحرب هي حاجة اميركية وليست ضرورة دولية او انسانية او غيرها. عداك عن حرج الدول العربية بالمشاركة في حرب اميركية ضد دولة عربية. خاصة بعد الرفض الاميركي لمحاولة ايجاد مخرج عربي للأزمة.
2. انه يبحث عن عدو ولا يجده. حتى بدا الأمر وكأنه يطالب العالم بتقديم ضحية ليتسلى الجبار افتراسها وممارسة جبروته عليها. وفي غياب هذه الضحية راح الجبار يتسلى بالحروب الصغيرة وبالحصارات متعددة الدرجات ومعها تصنيف دول العالم الى تابعة ومارقة. وفي ذلك الاعلان عن عدم وجود حالة وسطية.
3. انه يواجه عقبات في وجه عولمة نظامه القيمي الذي يرى الجبار الاميركي انه اثبت نجاحه ليصبح سيد العالم دون منازع. فاذا ما فشلت العولمة في مجموعة كبيرة من الدول المتعولمة والمستسلمة لشروط الأمركة رد الجبار هذا الفشل الى الفساد والتخلف في هذه الدول. وليس الى عدم صلاحية نظامه للعولمة.
4. ان بعض تطبيقات العولمة تضر بالاقتصاديات الاميركية مما يعطي للجبار الحق بتجاوز العديد من قوانين السوق ومنظمة التجارة العالمية. لكن هذا الحق بالتراجع لايمتد الى اية دولة اخرى مهما بلغ شانها وقوتها العسكرية. حتى لو أدى الأمر الى معاناة شعبها من المجاعة كما حصل في روسيا.
هذه هي باختصار المظالم الاميركية التي جعلت الولايات المتحدة تبرر تجاوزاتها لمبادئها الليبيرالية. لتخوض صراعات مثل حرب كوسوفو ولتفرض الحصار على مئات الملايين من البشر. بل انها اجبرت الاتحاد الاوروبي على اتخاذ الخطوات الكفيلة بالقضاء عليه وعلى امكانيات تطويره. وكان ذلك عبر التعديلات الاستراتيجية المدخلة على ميثاق حلف الناتو. والتي بدأت طلائعها مع اعلان بوش الأبن عن اصراره على مشروع "الدرع الصاروخي الاميركي" ولما يمضي شهر على دخوله البيت الابيض.
هذه المظالم تقودنا الى السيكولوجيا والى الحديث عن العقل الجمعي المنتج لهذه السياسات والمواقف؟. ليصدمنا هذا السؤال بواقع التعددية الاميركي الذي يجعل من المجتمع الاميركي تجمعا اشبه بالموزاييك الذي يتطلب اولا السؤال عن المواد اللاصقة لاجزائه والجامعة بين جماعاته. وهو السؤال الأصعب!. فعلى الرغم من وجود جواب سهل وجاهز يتمثل بالوفرة الاقتصادية (متوسط الدخل الاميركي 35 الف دولار سنويا) فان الموضوعية تقتضي تحري اجوبة اخرى. فالوفرة المادية قد تكون المادة اللاصقة الأساسية للموزاييك البشري الأميركي. الا انها ليست الوحيدة فماذا عن بقية المواد؟
ان معرفة المواد اللاصقة الأخرى غير ممكنة بالنظر الى المجتمع الأميركي من الخارج. اذ ان هذا المجتمع يختلف بصورة كلية عندما ننظر اليه من داخله عنه عندما ننظر اليه من الخارج. ففي الداخل الأميركي رفاهية نفسية تضاعف الأثر اللاصق لتلك المادة. فالحرية الأميركية لاتقف عند حدود ممارسة القناعات الخاصة بل تتعداها الى التحرر من قيود الآخر لدرجة اللامبالاة به. وذلك على عكس المجتمعات التقليدية حيث يكون الفرد اسيرا لرأي الآخر ومقيدا بالنظم الرمزية للجماعة وقيمها. بما فيها تلك التي تتعارض مع قناعاته ورغباته. بما يجعل الفرد يحس احيانا بالاغتراب داخل جماعته. اما المجتمع الأميركي فيقدم للفرد حرية شخصية في حدودها القصوى. وهذا ما يعطي للمجتمع الأميركي قدراته التذويبية الفائقة. التي تصهر المزيج الأتني والثقافي الهائل التنوع في موزاييك المجتمع الأميركي. فاذا اردنا ان نعطي مثالا على اللامبالاة والتحرر من قيود الآخر فاننا نأخذ المقابلة التي اجريت مع الرئيس بوش الابن عندما كان مرشحا. ففي تلك المقابلة الشهيرة كان بوش نموذجا للمواطن الأميركي العادي الذي لايهتم بما لا يعنيه. ومن هنا فشله في الاجابة على اسئلة من بديهيات السياسة. وهو فشل فضائحي بالنسبة الى مرشح لرئاسة القطب العالمي الأوحد. ومن الامثلة ايضا ذلك الاحصاء الذي بين ان 80% من الأميركيين يعتقدون ان باكستان و ايران هي دول عربية! وقس عليه.
في المقابل لابد من السؤال عن "الحنين الى الأصول" وهوحنين من طبيعة الجنس البشري. والجواب اختصارا هو ان عوامل انتصار البراغماتية الأميركية عقائديا والوفرة المادية وخمود القوميات كانت عوامل مذوبة كبتت هذا الحنين. الذي عاود ظهوره بقوة تتنامى مع تنامي انبعاث القوميات. وهو ردة الفعل الطبيعية امام خمود الايديولوجيات (ويقال سقوطها). وهذا ما يجعل دراسة المجتمع الأميركي الراهن اكثر تعقيدا. فهل نقسمه وفق انتماءاته العرقية والقومية؟ ام نتبع التقسيم البراغماتي الذي يصنف الناس في انماط وقوالب سلوكية بغض النظر عن شخصياتهم ولاوعيهم الفردي والجماعي؟.
لذلك كان من الهام التطرق لموضوع التحليل النفسي للشخصية الاميركية. عله يقدم لنا الاجوبة على هذه التساؤلات. حتى نصل الى الموضوع الاهم والاكثر الحاحـا" وهو موضوع
"مستقبل الولايات المتحدة الأميركية". اذ يبين علم المستقبليات ان الأمبراطوريات متعددة القوميات تموت موتا بطيئا و موجعا وجالبا للكوارث ومريقا للدماء. فهل تشذ الولايات المتحدة عن هذه القاعدة المستقبلية المتعارف عليها؟.
ان المواطن الأميركي اليوم فاقد للتوجه. اذ يتنازعه الحنين للاصول ( الآريون الأميركيون واللوبي اليهودي والتجمعات العرقية والدينية المختلفة) ومتعة اللامبالاة والذوبان. مما افقد الموزاييك الأميركي دعم الوفرة المادية بنشوة الحرية الشخصية التي تبدت مثاليتها ولاواقعيتها في الزمن الصعب. حيث اشتكى الآريون من سيطرة اليهود على الحكومة الفيديرالية. وحيث اشتكى الزنوج من تدني دخلهم واستمرارية التمييز العنصري ضدهم. وحين اتهم ذوو الأصول العربية بانفجار اوكلاهوما وغيرها من المواقف التي غذت الحنين الى الأصول وهي في طريقها لالغاء متعة اللامبالاة بالآخر. هذا الالغاء الذي يترك الموزاييك الأميركي قائما على الوفرة المادية وحدها. وهكذا يتوضح تدريجيا عجز الذات الأميركية عن مكاملة وتركيب مجموعاتها الدينامية. اذ يزداد بروز عوامل الاختلاف بين هذه المجموعات حتى ينفجر مع أول أزمة قتصادية أميركية قادمة. وعندها ستتبدى الفوارق بين هذه المجموعات على الاصعدة المختلفة ( العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والقومية ...الخ). حتى امكن القول ان انفجار اوكلاهوما وقبله حوادث ليتل روك ولوس انجلوس وبعدها حوادث سينسيناتي لم تكن سوى مظاهرين لبداية تفكك الذات الأميركية . على طريق تحويلها الى فتات من الأقليات المتنافرة. انها النفس الأميركية المفككة...
* الدراسات السابقة
تجد الانثروبولوجيا الثقافية جذورها في تاريخ الفكر الانساني. ولعل اقدم الملاحظات الانثروبولوجية هي تلك المنقولة عن المؤرخ هيرودوتس الذي لاحظ الفوارق بين العادات الأغريقية والعادات الفرعونية. ثم توالت الملاحظات الشبيهة مع تنامي امكانيات الاختلاط بين الأمم عبر التاريخ. حتى وصلت الى تقارير منظمة تتعلق ، بخصوصيات الأمم، من اعداد المبشرين الدينيين. الا أن تحول الانثروبولوجيا الثقافية الى فرع علمي مستقل تأخر لغاية الحرب العالمية الثانية. حين قادت الولايات المتحدة دراسات الشخصية القومية من منطلق فائدتها في التعرف على بنية وهيكلية مجتمعات الأعداء. اضافة الى التعرف على اساليبهم التفاعلية وردود افعالهم المحتملة امام الأحداث والشائعات وغيرها. وتولت هذه المهمة هيئات رسمية اميركية استعانت بكبار الباحثين الانثروبولوجيين في حينه. فقد عمل العالم "باتسون" في هذا المجال لدى مكتب الخدمات العسكرية الأميركي (المخابرات في حينه). كما عمل العلماء "غورير" و "لايون" و"كلاكهوهن" في مكتب المعلومات البحرية الأميركية (فرع المخابرات الآخر في حينه). وقام هؤلاء بدراسة الشخصيات القومية في الدول الصديقة والعدوة على حد سواء. الا ان الأهتمام تركز في حينه على الشخصية اليابانية (بسبب جدية التهديد الياباني وخطورته اثناء تلك الحرب) والشخصيات الرومانية والتايلاندية والروسية والألمانية بالطبع.
اما بالنسبة الى الدراسات المتعلقة بالشخصية الأميركية فقد تأخر ظهور اول الدراسات المنشورة في هذا المجال الى العام 1948 عندما نشر العالم "غورير" كتابه المعنون:
Gorer.G: The American People,A Study in National Character, W.W. Norton,NY,1948
في هذه الدراسة يلاحظ غورير ان الأميركيين يطبقون نظاما صارما بالنسبة لمواعيد ارضاع اطفالهم. ومن الطبيعي ان الطفل يحتاج الى فترة للتكيف مع هذا النظام (الموضوع من قبل بالغين عاجزين عن التحديد الدقيق لحاجات الطفل. خصوصا وانها عشوائية وغير منتظمة). خلال هذه الفترة يمر الطفل بتجربة الجوع التي تغضبه فيعبر عنها بالصراخ. ويستنتج غورير ان الشعور بالخوف من الجوع يلازم الاطفال الأميركيين على مدى حياتهم. وهذا سبب الاحتجاجات الأميركية الشعبية على المعونات الأميركية التي قد تؤدي الى مجاعة أميركية في حال استمرار توريد الأغذية الى الخارج. ويدعم الباحث هذا التحليل بالخوف الذي يجتاح الأميركيين من احتمالات تناقص المحاصيل الزراعية في المستقبل (كانت هذه المخاوف منتشرة في حينه في المجتمع الأميركي). كذلك يربط غورير بين تجربة الجوع هذه وبين اهتمام الأميركي بصدر المرأة. ويصف المرأة الأميركية بانها شبقية وعمياء معتبرا هذه الصفات على علاقة بجوعها ابان فترة الرضاعة.
والواقع ان هذه الدراسة تعرضت لانتقادات عديدة اهمها ان الباحث يؤكد على كون مرحلة الطفولة محددة للشخصية البالغة (توجه تحليلي-فرويدي). ومع ذلك فان أثر مرحلة الطفولة غير قابل للالغاء وان لم يكن وحده المحدد لشخصية البالغ. بل اننا ،وبالرغم من تغير الظروف والمعطيات، لا نزال نلاحظ خوف الأميركي من الجوع في مواقف عديدة. مثل الجماعة التي كانت تخزن الأطعمة في اقبية خاصة تحسبا للحرب النووية. وكذلك الاهتمام الأميركي البالغ بالرفاهية الأقتصادية. وهو الاهتمام الذي جعل كلينتون يفوز على بوش تحت شعار"اميركا أولا". ومن احدث تبديات هذا الخوف من الجوع ذلك الشلل الذي اصاب تجارة البيع بالتجزئة في النصف الثاني من العام 2000 حين قتر الأميركيون على انفسهم حفاظا" على مدخراتهم. التي اعتبروها مهددة بسبب التغيير المرافق لسياسة الرئيس المقبل. وكان قرار خفض سعر الفائدة بعد فوز بوش على علاقة بهذا الخوف. فهذا الخفض يسمح للمواطن العادي بالاقتراض بفائدة اقل مما يشجعه على الانفاق ويحرك جمود تجارة التجزئة.
واذا كان غورير قد التمس نقطة الضعف هذه فان ذلك لايعني بحال استمرار صلاحية تحليله للشخصية الأميركية. فقد لحق التغيير بنظم التربية (نعايش حاليا الجيل الأميركي الذي تربى وفق مباديء الدكتور سبوك.وهو ما عرف بالتربية الحديثة التي حولت الأطفال الى متحكمين بأهاليهم) وبالتركيبة الديموغرافية ومستوى الدخل الفردي ومستوى الهيمنة العالمية للولايات المتحدة. هذه المتغيرات وكثيرة غيرها تسقط تحليل غروير وتجعله مجرد مرجع لتلك الحقبة. وهذا يقودنا الى طرح السؤال حول الشخصية الأميركية المعاصرة بعد كل هذه التبدلات؟.
ان الموزاييك الأميركي، الذي يزداد تعقيدا مع مرور الوقت، يقطع الطريق امام مجرد محاولة الحديث عن شخصية اميركية بالمعنى القومي لسمات الشخصية الجمعية. ولقد ادرك الأميركيون هذه الاستحالة لذلك طرحوا المسألة على صعيد ما اسموه ب:"نمط الحياة الأميركية". بما ينسجم مع تعدديتهم التي تضعهم في ردة فعل دفاعية-فكرية تجعلهم يرفضون القوميات والافكار القومية. وهذا ما سيقود للحديث عن الأمة الأميركية عوضا عن القومية الأميركية. وبذلك يصبح استكشافنا لهذه الشخصية مرتبطا بالفكر المقرر لنمط الحياة الأميركي. وهو الفكر البراغماتي الانساني. الذي تسعى الولايات المتحدة اليوم الى عولمته. بما يعادل فرض نمط الحياة الأميركي على شعوب العالم. وهنا تكمن مفارقة شديدة الأهمية. اذ ان نمط الحياة هو سلوك برهنت التجربة الأميركية على كونه قابلا للاعتماد من اشخاص وجماعات ينتمون الى مختلف الثقافات والأعراق. والسلوك هو نمط تصرفات وحياة قابل للاعتماد من قبل الشخصيات المختلفة. اي انه من الممكن اعتماد النمط السلوكي مع الحفاظ على الشخصية ومعها على الفروق الفردية. وهذا ما يقودنا للحديث تفصيلا عن نمط الحياة الأميركي ومنطلقاته الفكرية التي طالما تعرضت للسخرية لكونها لاترقى الى مجال الفلسفة. وهذا ما حال دون تحويل هذا النمط الى نظام ايديولوجي. وها هو هذا النمط يحفظ استمراريته بعد غياب (سقوط) الأيديولوجيات. لدرجة استغلال الفراغ، الناجم عن هذا الغياب، من اجل الدعوة لعولمة هذا الفكر (البراغماتي) ونمطه الحياتي.
1- البراغماتية الانسانية
نصادف عناصر الفكر البراغماتي موزعة في محطات عديدة من التراث الانساني. بل اننا نجد اثر هذه العناصر في بعض الديانات القديمة. كما نجدها في العديد من الأساطير القديمة والمنسوخة. الا ان انتظام الفكر البراغماتي شهد بداياته عند نيتشيه حيث طغت عليه النزعة التشاؤمية. في حين يعتبر الفيلسوف الأميركي وليام جايمس، المؤسس الفعلي للبراغماتية، الذي اصدر اول كتبه بعنوان " مباديء السيكولوجيا" مكرسا فيه قناعته بضرورة انحسار طموحات الفلسفة من الكون الىالانسان. ومطلقا نظريته البراغماتية التي لم تتجاوز كونها مجرد واحدة من نظريات المعرفة. ولم تكن نظرية جايمس لتقاوم وتستمر لغية الآن لولا التطوير الذي ادخله عليها الفيلسوف فرديناند كانغ سكوت شيلر(1864 – 1934). الذي اطلق ما عرف باسم "البراغماتية الانسانية". وهو يعتقد ان انسانية نظريته تعود الى الأهمية المركزية للانسان فيها. فقد حافظ شيلر على مبدأ جايمس بالحكم على قيمة المعرفة من خلال منفعتها. وبما ان الانسان هو الحكم على هذه المنفعة فان شيلر يعطيه مكان الصدارة في التفلسف بحيث يشارك فيه بحسه وعقله وادراكاته وحتى بوجدانه. وبذلك يعتبر شيلر ان الانسان هو المركز لكامل العالم الفكري. جامعا" بذلك بين اكسيولوجية بروتاغوراس ( القائلة بان الانسان هو المرجع في الامور حميعها) وبين تشاؤمية نيتشيه ( القائل بان الانسان هو حيوان لن نصل يوما الى فهمه). وانطلاقا من اهمية الانسان في هذه النظرة اعتبر شيلر ان مذهبه هو "المذهب الانساني للبراغماتية". وبهذا فهو يسمح لنفسه باستبدال احكام "الوجود" باحكام "القيمة". وهكذا تتحول الحقيقة الى مجرد اداة للعمل ( بعد ان فقدت اطلاقيتها وتجريديتها) وهي لاتصبح واقعة الا بفعل الانسان فيها. وقبل متابعة شرحنا لنظرية شيلر نود ايراد الخلاصة العملية لهذه النظرية والتي تنعكس بوضوح على نمط الحياة الأميركي. حيث يمكن اختصارها بالمباديء التالية:
1- يجب احترام جميع المعتقدات حتى ما يبدو لنا منها باطلا. شرط ان يكون اصحابها صادقين ومخلصين لها.
2- يجب الابتعاد عن مواقف التشيع والانحياز.
3- يجب الابتعاد عن المواقف التحزبية.
4- يجب الابتعاد عن مواقف العنصرية والتمييز وتجنبها.
5- يجب اعتماد قيم التسامح والشمولية الانسانية.
وبالرغم من قائمة الاسئلة التي تثيرها هذه المباديء ،والتي نؤجل مناقشتها، فاننا نلاحظ ان هذه المباديء هي المعتمدة كأساس لليبيرالية الأميركية. اما عن نمط التفكير الداعم والمرافق لتطبيق هذه المباديء فيلخصه شيلر عبر تصنيفه للاعتقادات التي يعتبرها اداة قمع اجتماعية او سلطوية. بحيث يجب الخلاص من تاثيرها. وعلى طريق هذا الخلاص فانه يصنفها الى:
1. الاعتقادات الضمنية – التي لانجاهر بها ولا نناقشها.
2. الاعتقادات الجدالية – وهي غير مستقرة لكننا نسلم بها عن بينة.
3. انصاف الاعتقادات – وهي غير ثابتة (غالبا" دينية برأي شيلر).
4. الاعتقادات الموهمة – وهي ايحائية الطابع.
عبر هذا التصنيف يبين لنا المذهب الانساني لااطلاقية المعتقدات وعدم اضطرارنا للاستسلام لها كأداة بطش اجتماعية أو سلطوية. وتاليا" فاننا لسنا عبيدا" لمعتقداتنا. فنحن احرار في اختيارها وتعديلها بما يتناسب مع طموحاتنا الفردية ورغبتنا في تعديل البيئة (الواقع) وفق غاياتنا. ونحن اذا ما قرنا دعوة شيلر للخلاص من سلطة الاعتقادات وجدنا انه المؤسس الحقيقي لدعوة العولمة الراهنة. فالخطوة الأولى لتطبيق نظام السوق (العولمة) تبدأ من القاء الاعتقادات جانبا". لأن الخلاص من سلطتها شرط رئيسي لليبيرالية الأميركية التي ارسى شيلر مبادءها. وبذلك يحق لنا الاعتقاد بأن كتاب شيلر المنشور عام 1929 تحت عنوان "منطق للاستخدام" هو المقدمة الفكرية للعولمة. مما يجعل من مناقشة هذا الكتاب وأفكار مؤلفه عامة مناقشة للينابيع الفكرية وللارهاصات الأولى للعولمة. ولعله من المفاجيء ان الباحثين العرب المتصدين لمناقشة العولمة لم يتطرقوا الى هذا الجانب الفكري منها.
2. مناقشة البراغماتية الانسانية
ولكن هل تفضي هذه المنطلقات الى حرية العيش الانساني؟. فلو نحن سلمنا بأن الانسان يصنع واقعه بنفسه فاننا سنقع في اشكاليتين ميتافيزيقيتين هما: أ- عدم كمال الواقع وب- اطلاقية حرية الفعل الانساني. وشيلر يتجاهل الاجابة على هاتين الاشكاليتين ليرى أن حرية الانسان هي امر واقع لانها غير محدودة بواقع ثابت (لأن العالم غير تان لذلك فهو يتغير ويتطور باستمرار مغيرا" معه الواقع). في المقابل نجد أن شيلر لاينكر الحتمية لكنه يجد البينة على محدوديتها في نتائج أبحاث الفيزياء الكوانتية. التي أثرت الفلسفة وقدمت لها أداة ثمينة لاستيعاب منهج العلم وطبيعة المعرفة.
مما تقدم نلاحظ أن الاغراق في الجانب النظري لآراء شيلر يحجب عن البعض علاقة هذا المذهب بدعوة بداية القرن 21 (وما العولمة الا واحدة من تجلياتها) لكن الخلاصة التالية توضح لنا بجلاء هذه العلاقة وهي اختصارا" التالية: " ان عدم تمام العالم وحاجته الى التطور تحولان الواقع الى عدم الثبات والى امكانية التحكم به وتشكيله. بحيث يمكننا ان نصنع منه ما نشاء. بل اننا نبدل فيه ونبتدع منه على الدوام ودون توقف. وبما أن عالمنا مستمر في نموه وتطوره فأن عملية ابتداعنا للواقع غير قابلة للتوقف أو الانتهاء. وبذلك يكون المستقبل مجموعة ممكنات (أو احتمالات) يمكننا أن نحول بعضها الى واقع وبعضها الآخر الى مستحيل (المستقبليات من تجليات هذا المذهب) أما عن اتجاه هذا التحويل فهو يتعلق بعوالمنا الفردية ومنها الاعتقادات المصنفة أعلاه.
ونعود الى مباديء نمط الحياة الأميركي لنناقشها واحدة بعد الأخرى ولنبدأ ب:
1-احترام معتقدات الغير شرط أن يكون صادقا" في اعتناقه لها.
وهنا يطرح السؤال من يحدد هذا الصدق ومقداره؟. ومن يتولى مهمة توزيع المعتقدات وفق تصنيفاتها المذكورة اعلاه؟. وغموض الأجوبة على هذه الأسئلة يكاد يساوي شرعية احتقار آراء الغير ومعتقداته (لدرجة الغائها) ان هي لم تتوافق مع معايير التصنيف وفق رؤية الطرف الأقوى لها!؟. بل أن سؤالا" اكثر جذرية يطرح نفسه وهو: هل تعني الحرية الانسانية وجوب الحصول على الاعتراف بالمعتقدات؟. واذا كان ذلك واجبا" فمن هي الجهة المانحة لهذا الاعتراف؟. وما هي الاثباتات والقرائن الواجب على صاحب الاعتقاد تقديمها لنيل هذا الاعتراف؟. واذا كان هذا المذهب شريكا" للسيكولوجيا (شراكة الموضوع وهو الانسان) فاننا نسأله عن سبب اهماله للغرائز الانسانية وهي محركات اكثر فعالية من الاعتقادات. فماذا عن غرائز البقاء واستمرارية النوع لدى شعوب يأكلها المرض والمجاعات فتتعرض لمساومات تبديل اعتقاداتها حتى يسمح لها بالاستمرار في الحياة!. فهل هذه هي الليبيرالية؟.
الأمين العام للاتحاد العربي للعلوم النفسية
مقدمة
خلف سقوط الاتحاد السوفياتي فراغا عالميا جعل الولايات المتحدة اللاعب الرئيسي في العالم.بما اغرى رئيسها جورج بوش باطلاق مصطلح النظام العالمي الجديد لتأكيد سطوة الولايات المتحدة وجبروتها العسكري. الذي كرسته حرب الخليج الثانية. التي ذهب بعضهم لاعتبارها الحرب العالمية الثالثة. استنادا الى عدد الدول المشاركة فيها والى كمية الاسلحة المستخدمة خلالها. وعلى الرغم من الاحراجات الدبلوماسية والاخلاقية التي سببها قرار الحرب الاميركي فان الجبار الاميركي لم يتوقف عن الشكوى. وتركزت شكاويه على الامور التالية بصورة خاصة:
1. انه لايحظى بنفوذ سياسي يتناسب وتفوق قدراته العسكرية. بما يعكس عدم كفايته بالرغم من قدرته على جر دول عديدة الى تلك الحرب بضغوطات نفوذه وقوته الاقتصادية والعسكرية والسياسية. فقد كانت كل من فرنسا وروسيا تبذلان المستحيل من الجهود لمنع هذه الحرب. ليس فقط لاضرارها بمصالحهما ولكن ايضا لوعيهما ان هذه الحرب هي حاجة اميركية وليست ضرورة دولية او انسانية او غيرها. عداك عن حرج الدول العربية بالمشاركة في حرب اميركية ضد دولة عربية. خاصة بعد الرفض الاميركي لمحاولة ايجاد مخرج عربي للأزمة.
2. انه يبحث عن عدو ولا يجده. حتى بدا الأمر وكأنه يطالب العالم بتقديم ضحية ليتسلى الجبار افتراسها وممارسة جبروته عليها. وفي غياب هذه الضحية راح الجبار يتسلى بالحروب الصغيرة وبالحصارات متعددة الدرجات ومعها تصنيف دول العالم الى تابعة ومارقة. وفي ذلك الاعلان عن عدم وجود حالة وسطية.
3. انه يواجه عقبات في وجه عولمة نظامه القيمي الذي يرى الجبار الاميركي انه اثبت نجاحه ليصبح سيد العالم دون منازع. فاذا ما فشلت العولمة في مجموعة كبيرة من الدول المتعولمة والمستسلمة لشروط الأمركة رد الجبار هذا الفشل الى الفساد والتخلف في هذه الدول. وليس الى عدم صلاحية نظامه للعولمة.
4. ان بعض تطبيقات العولمة تضر بالاقتصاديات الاميركية مما يعطي للجبار الحق بتجاوز العديد من قوانين السوق ومنظمة التجارة العالمية. لكن هذا الحق بالتراجع لايمتد الى اية دولة اخرى مهما بلغ شانها وقوتها العسكرية. حتى لو أدى الأمر الى معاناة شعبها من المجاعة كما حصل في روسيا.
هذه هي باختصار المظالم الاميركية التي جعلت الولايات المتحدة تبرر تجاوزاتها لمبادئها الليبيرالية. لتخوض صراعات مثل حرب كوسوفو ولتفرض الحصار على مئات الملايين من البشر. بل انها اجبرت الاتحاد الاوروبي على اتخاذ الخطوات الكفيلة بالقضاء عليه وعلى امكانيات تطويره. وكان ذلك عبر التعديلات الاستراتيجية المدخلة على ميثاق حلف الناتو. والتي بدأت طلائعها مع اعلان بوش الأبن عن اصراره على مشروع "الدرع الصاروخي الاميركي" ولما يمضي شهر على دخوله البيت الابيض.
هذه المظالم تقودنا الى السيكولوجيا والى الحديث عن العقل الجمعي المنتج لهذه السياسات والمواقف؟. ليصدمنا هذا السؤال بواقع التعددية الاميركي الذي يجعل من المجتمع الاميركي تجمعا اشبه بالموزاييك الذي يتطلب اولا السؤال عن المواد اللاصقة لاجزائه والجامعة بين جماعاته. وهو السؤال الأصعب!. فعلى الرغم من وجود جواب سهل وجاهز يتمثل بالوفرة الاقتصادية (متوسط الدخل الاميركي 35 الف دولار سنويا) فان الموضوعية تقتضي تحري اجوبة اخرى. فالوفرة المادية قد تكون المادة اللاصقة الأساسية للموزاييك البشري الأميركي. الا انها ليست الوحيدة فماذا عن بقية المواد؟
ان معرفة المواد اللاصقة الأخرى غير ممكنة بالنظر الى المجتمع الأميركي من الخارج. اذ ان هذا المجتمع يختلف بصورة كلية عندما ننظر اليه من داخله عنه عندما ننظر اليه من الخارج. ففي الداخل الأميركي رفاهية نفسية تضاعف الأثر اللاصق لتلك المادة. فالحرية الأميركية لاتقف عند حدود ممارسة القناعات الخاصة بل تتعداها الى التحرر من قيود الآخر لدرجة اللامبالاة به. وذلك على عكس المجتمعات التقليدية حيث يكون الفرد اسيرا لرأي الآخر ومقيدا بالنظم الرمزية للجماعة وقيمها. بما فيها تلك التي تتعارض مع قناعاته ورغباته. بما يجعل الفرد يحس احيانا بالاغتراب داخل جماعته. اما المجتمع الأميركي فيقدم للفرد حرية شخصية في حدودها القصوى. وهذا ما يعطي للمجتمع الأميركي قدراته التذويبية الفائقة. التي تصهر المزيج الأتني والثقافي الهائل التنوع في موزاييك المجتمع الأميركي. فاذا اردنا ان نعطي مثالا على اللامبالاة والتحرر من قيود الآخر فاننا نأخذ المقابلة التي اجريت مع الرئيس بوش الابن عندما كان مرشحا. ففي تلك المقابلة الشهيرة كان بوش نموذجا للمواطن الأميركي العادي الذي لايهتم بما لا يعنيه. ومن هنا فشله في الاجابة على اسئلة من بديهيات السياسة. وهو فشل فضائحي بالنسبة الى مرشح لرئاسة القطب العالمي الأوحد. ومن الامثلة ايضا ذلك الاحصاء الذي بين ان 80% من الأميركيين يعتقدون ان باكستان و ايران هي دول عربية! وقس عليه.
في المقابل لابد من السؤال عن "الحنين الى الأصول" وهوحنين من طبيعة الجنس البشري. والجواب اختصارا هو ان عوامل انتصار البراغماتية الأميركية عقائديا والوفرة المادية وخمود القوميات كانت عوامل مذوبة كبتت هذا الحنين. الذي عاود ظهوره بقوة تتنامى مع تنامي انبعاث القوميات. وهو ردة الفعل الطبيعية امام خمود الايديولوجيات (ويقال سقوطها). وهذا ما يجعل دراسة المجتمع الأميركي الراهن اكثر تعقيدا. فهل نقسمه وفق انتماءاته العرقية والقومية؟ ام نتبع التقسيم البراغماتي الذي يصنف الناس في انماط وقوالب سلوكية بغض النظر عن شخصياتهم ولاوعيهم الفردي والجماعي؟.
لذلك كان من الهام التطرق لموضوع التحليل النفسي للشخصية الاميركية. عله يقدم لنا الاجوبة على هذه التساؤلات. حتى نصل الى الموضوع الاهم والاكثر الحاحـا" وهو موضوع
"مستقبل الولايات المتحدة الأميركية". اذ يبين علم المستقبليات ان الأمبراطوريات متعددة القوميات تموت موتا بطيئا و موجعا وجالبا للكوارث ومريقا للدماء. فهل تشذ الولايات المتحدة عن هذه القاعدة المستقبلية المتعارف عليها؟.
ان المواطن الأميركي اليوم فاقد للتوجه. اذ يتنازعه الحنين للاصول ( الآريون الأميركيون واللوبي اليهودي والتجمعات العرقية والدينية المختلفة) ومتعة اللامبالاة والذوبان. مما افقد الموزاييك الأميركي دعم الوفرة المادية بنشوة الحرية الشخصية التي تبدت مثاليتها ولاواقعيتها في الزمن الصعب. حيث اشتكى الآريون من سيطرة اليهود على الحكومة الفيديرالية. وحيث اشتكى الزنوج من تدني دخلهم واستمرارية التمييز العنصري ضدهم. وحين اتهم ذوو الأصول العربية بانفجار اوكلاهوما وغيرها من المواقف التي غذت الحنين الى الأصول وهي في طريقها لالغاء متعة اللامبالاة بالآخر. هذا الالغاء الذي يترك الموزاييك الأميركي قائما على الوفرة المادية وحدها. وهكذا يتوضح تدريجيا عجز الذات الأميركية عن مكاملة وتركيب مجموعاتها الدينامية. اذ يزداد بروز عوامل الاختلاف بين هذه المجموعات حتى ينفجر مع أول أزمة قتصادية أميركية قادمة. وعندها ستتبدى الفوارق بين هذه المجموعات على الاصعدة المختلفة ( العرقية واللغوية والدينية والمذهبية والقومية ...الخ). حتى امكن القول ان انفجار اوكلاهوما وقبله حوادث ليتل روك ولوس انجلوس وبعدها حوادث سينسيناتي لم تكن سوى مظاهرين لبداية تفكك الذات الأميركية . على طريق تحويلها الى فتات من الأقليات المتنافرة. انها النفس الأميركية المفككة...
* الدراسات السابقة
تجد الانثروبولوجيا الثقافية جذورها في تاريخ الفكر الانساني. ولعل اقدم الملاحظات الانثروبولوجية هي تلك المنقولة عن المؤرخ هيرودوتس الذي لاحظ الفوارق بين العادات الأغريقية والعادات الفرعونية. ثم توالت الملاحظات الشبيهة مع تنامي امكانيات الاختلاط بين الأمم عبر التاريخ. حتى وصلت الى تقارير منظمة تتعلق ، بخصوصيات الأمم، من اعداد المبشرين الدينيين. الا أن تحول الانثروبولوجيا الثقافية الى فرع علمي مستقل تأخر لغاية الحرب العالمية الثانية. حين قادت الولايات المتحدة دراسات الشخصية القومية من منطلق فائدتها في التعرف على بنية وهيكلية مجتمعات الأعداء. اضافة الى التعرف على اساليبهم التفاعلية وردود افعالهم المحتملة امام الأحداث والشائعات وغيرها. وتولت هذه المهمة هيئات رسمية اميركية استعانت بكبار الباحثين الانثروبولوجيين في حينه. فقد عمل العالم "باتسون" في هذا المجال لدى مكتب الخدمات العسكرية الأميركي (المخابرات في حينه). كما عمل العلماء "غورير" و "لايون" و"كلاكهوهن" في مكتب المعلومات البحرية الأميركية (فرع المخابرات الآخر في حينه). وقام هؤلاء بدراسة الشخصيات القومية في الدول الصديقة والعدوة على حد سواء. الا ان الأهتمام تركز في حينه على الشخصية اليابانية (بسبب جدية التهديد الياباني وخطورته اثناء تلك الحرب) والشخصيات الرومانية والتايلاندية والروسية والألمانية بالطبع.
اما بالنسبة الى الدراسات المتعلقة بالشخصية الأميركية فقد تأخر ظهور اول الدراسات المنشورة في هذا المجال الى العام 1948 عندما نشر العالم "غورير" كتابه المعنون:
Gorer.G: The American People,A Study in National Character, W.W. Norton,NY,1948
في هذه الدراسة يلاحظ غورير ان الأميركيين يطبقون نظاما صارما بالنسبة لمواعيد ارضاع اطفالهم. ومن الطبيعي ان الطفل يحتاج الى فترة للتكيف مع هذا النظام (الموضوع من قبل بالغين عاجزين عن التحديد الدقيق لحاجات الطفل. خصوصا وانها عشوائية وغير منتظمة). خلال هذه الفترة يمر الطفل بتجربة الجوع التي تغضبه فيعبر عنها بالصراخ. ويستنتج غورير ان الشعور بالخوف من الجوع يلازم الاطفال الأميركيين على مدى حياتهم. وهذا سبب الاحتجاجات الأميركية الشعبية على المعونات الأميركية التي قد تؤدي الى مجاعة أميركية في حال استمرار توريد الأغذية الى الخارج. ويدعم الباحث هذا التحليل بالخوف الذي يجتاح الأميركيين من احتمالات تناقص المحاصيل الزراعية في المستقبل (كانت هذه المخاوف منتشرة في حينه في المجتمع الأميركي). كذلك يربط غورير بين تجربة الجوع هذه وبين اهتمام الأميركي بصدر المرأة. ويصف المرأة الأميركية بانها شبقية وعمياء معتبرا هذه الصفات على علاقة بجوعها ابان فترة الرضاعة.
والواقع ان هذه الدراسة تعرضت لانتقادات عديدة اهمها ان الباحث يؤكد على كون مرحلة الطفولة محددة للشخصية البالغة (توجه تحليلي-فرويدي). ومع ذلك فان أثر مرحلة الطفولة غير قابل للالغاء وان لم يكن وحده المحدد لشخصية البالغ. بل اننا ،وبالرغم من تغير الظروف والمعطيات، لا نزال نلاحظ خوف الأميركي من الجوع في مواقف عديدة. مثل الجماعة التي كانت تخزن الأطعمة في اقبية خاصة تحسبا للحرب النووية. وكذلك الاهتمام الأميركي البالغ بالرفاهية الأقتصادية. وهو الاهتمام الذي جعل كلينتون يفوز على بوش تحت شعار"اميركا أولا". ومن احدث تبديات هذا الخوف من الجوع ذلك الشلل الذي اصاب تجارة البيع بالتجزئة في النصف الثاني من العام 2000 حين قتر الأميركيون على انفسهم حفاظا" على مدخراتهم. التي اعتبروها مهددة بسبب التغيير المرافق لسياسة الرئيس المقبل. وكان قرار خفض سعر الفائدة بعد فوز بوش على علاقة بهذا الخوف. فهذا الخفض يسمح للمواطن العادي بالاقتراض بفائدة اقل مما يشجعه على الانفاق ويحرك جمود تجارة التجزئة.
واذا كان غورير قد التمس نقطة الضعف هذه فان ذلك لايعني بحال استمرار صلاحية تحليله للشخصية الأميركية. فقد لحق التغيير بنظم التربية (نعايش حاليا الجيل الأميركي الذي تربى وفق مباديء الدكتور سبوك.وهو ما عرف بالتربية الحديثة التي حولت الأطفال الى متحكمين بأهاليهم) وبالتركيبة الديموغرافية ومستوى الدخل الفردي ومستوى الهيمنة العالمية للولايات المتحدة. هذه المتغيرات وكثيرة غيرها تسقط تحليل غروير وتجعله مجرد مرجع لتلك الحقبة. وهذا يقودنا الى طرح السؤال حول الشخصية الأميركية المعاصرة بعد كل هذه التبدلات؟.
ان الموزاييك الأميركي، الذي يزداد تعقيدا مع مرور الوقت، يقطع الطريق امام مجرد محاولة الحديث عن شخصية اميركية بالمعنى القومي لسمات الشخصية الجمعية. ولقد ادرك الأميركيون هذه الاستحالة لذلك طرحوا المسألة على صعيد ما اسموه ب:"نمط الحياة الأميركية". بما ينسجم مع تعدديتهم التي تضعهم في ردة فعل دفاعية-فكرية تجعلهم يرفضون القوميات والافكار القومية. وهذا ما سيقود للحديث عن الأمة الأميركية عوضا عن القومية الأميركية. وبذلك يصبح استكشافنا لهذه الشخصية مرتبطا بالفكر المقرر لنمط الحياة الأميركي. وهو الفكر البراغماتي الانساني. الذي تسعى الولايات المتحدة اليوم الى عولمته. بما يعادل فرض نمط الحياة الأميركي على شعوب العالم. وهنا تكمن مفارقة شديدة الأهمية. اذ ان نمط الحياة هو سلوك برهنت التجربة الأميركية على كونه قابلا للاعتماد من اشخاص وجماعات ينتمون الى مختلف الثقافات والأعراق. والسلوك هو نمط تصرفات وحياة قابل للاعتماد من قبل الشخصيات المختلفة. اي انه من الممكن اعتماد النمط السلوكي مع الحفاظ على الشخصية ومعها على الفروق الفردية. وهذا ما يقودنا للحديث تفصيلا عن نمط الحياة الأميركي ومنطلقاته الفكرية التي طالما تعرضت للسخرية لكونها لاترقى الى مجال الفلسفة. وهذا ما حال دون تحويل هذا النمط الى نظام ايديولوجي. وها هو هذا النمط يحفظ استمراريته بعد غياب (سقوط) الأيديولوجيات. لدرجة استغلال الفراغ، الناجم عن هذا الغياب، من اجل الدعوة لعولمة هذا الفكر (البراغماتي) ونمطه الحياتي.
1- البراغماتية الانسانية
نصادف عناصر الفكر البراغماتي موزعة في محطات عديدة من التراث الانساني. بل اننا نجد اثر هذه العناصر في بعض الديانات القديمة. كما نجدها في العديد من الأساطير القديمة والمنسوخة. الا ان انتظام الفكر البراغماتي شهد بداياته عند نيتشيه حيث طغت عليه النزعة التشاؤمية. في حين يعتبر الفيلسوف الأميركي وليام جايمس، المؤسس الفعلي للبراغماتية، الذي اصدر اول كتبه بعنوان " مباديء السيكولوجيا" مكرسا فيه قناعته بضرورة انحسار طموحات الفلسفة من الكون الىالانسان. ومطلقا نظريته البراغماتية التي لم تتجاوز كونها مجرد واحدة من نظريات المعرفة. ولم تكن نظرية جايمس لتقاوم وتستمر لغية الآن لولا التطوير الذي ادخله عليها الفيلسوف فرديناند كانغ سكوت شيلر(1864 – 1934). الذي اطلق ما عرف باسم "البراغماتية الانسانية". وهو يعتقد ان انسانية نظريته تعود الى الأهمية المركزية للانسان فيها. فقد حافظ شيلر على مبدأ جايمس بالحكم على قيمة المعرفة من خلال منفعتها. وبما ان الانسان هو الحكم على هذه المنفعة فان شيلر يعطيه مكان الصدارة في التفلسف بحيث يشارك فيه بحسه وعقله وادراكاته وحتى بوجدانه. وبذلك يعتبر شيلر ان الانسان هو المركز لكامل العالم الفكري. جامعا" بذلك بين اكسيولوجية بروتاغوراس ( القائلة بان الانسان هو المرجع في الامور حميعها) وبين تشاؤمية نيتشيه ( القائل بان الانسان هو حيوان لن نصل يوما الى فهمه). وانطلاقا من اهمية الانسان في هذه النظرة اعتبر شيلر ان مذهبه هو "المذهب الانساني للبراغماتية". وبهذا فهو يسمح لنفسه باستبدال احكام "الوجود" باحكام "القيمة". وهكذا تتحول الحقيقة الى مجرد اداة للعمل ( بعد ان فقدت اطلاقيتها وتجريديتها) وهي لاتصبح واقعة الا بفعل الانسان فيها. وقبل متابعة شرحنا لنظرية شيلر نود ايراد الخلاصة العملية لهذه النظرية والتي تنعكس بوضوح على نمط الحياة الأميركي. حيث يمكن اختصارها بالمباديء التالية:
1- يجب احترام جميع المعتقدات حتى ما يبدو لنا منها باطلا. شرط ان يكون اصحابها صادقين ومخلصين لها.
2- يجب الابتعاد عن مواقف التشيع والانحياز.
3- يجب الابتعاد عن المواقف التحزبية.
4- يجب الابتعاد عن مواقف العنصرية والتمييز وتجنبها.
5- يجب اعتماد قيم التسامح والشمولية الانسانية.
وبالرغم من قائمة الاسئلة التي تثيرها هذه المباديء ،والتي نؤجل مناقشتها، فاننا نلاحظ ان هذه المباديء هي المعتمدة كأساس لليبيرالية الأميركية. اما عن نمط التفكير الداعم والمرافق لتطبيق هذه المباديء فيلخصه شيلر عبر تصنيفه للاعتقادات التي يعتبرها اداة قمع اجتماعية او سلطوية. بحيث يجب الخلاص من تاثيرها. وعلى طريق هذا الخلاص فانه يصنفها الى:
1. الاعتقادات الضمنية – التي لانجاهر بها ولا نناقشها.
2. الاعتقادات الجدالية – وهي غير مستقرة لكننا نسلم بها عن بينة.
3. انصاف الاعتقادات – وهي غير ثابتة (غالبا" دينية برأي شيلر).
4. الاعتقادات الموهمة – وهي ايحائية الطابع.
عبر هذا التصنيف يبين لنا المذهب الانساني لااطلاقية المعتقدات وعدم اضطرارنا للاستسلام لها كأداة بطش اجتماعية أو سلطوية. وتاليا" فاننا لسنا عبيدا" لمعتقداتنا. فنحن احرار في اختيارها وتعديلها بما يتناسب مع طموحاتنا الفردية ورغبتنا في تعديل البيئة (الواقع) وفق غاياتنا. ونحن اذا ما قرنا دعوة شيلر للخلاص من سلطة الاعتقادات وجدنا انه المؤسس الحقيقي لدعوة العولمة الراهنة. فالخطوة الأولى لتطبيق نظام السوق (العولمة) تبدأ من القاء الاعتقادات جانبا". لأن الخلاص من سلطتها شرط رئيسي لليبيرالية الأميركية التي ارسى شيلر مبادءها. وبذلك يحق لنا الاعتقاد بأن كتاب شيلر المنشور عام 1929 تحت عنوان "منطق للاستخدام" هو المقدمة الفكرية للعولمة. مما يجعل من مناقشة هذا الكتاب وأفكار مؤلفه عامة مناقشة للينابيع الفكرية وللارهاصات الأولى للعولمة. ولعله من المفاجيء ان الباحثين العرب المتصدين لمناقشة العولمة لم يتطرقوا الى هذا الجانب الفكري منها.
2. مناقشة البراغماتية الانسانية
ولكن هل تفضي هذه المنطلقات الى حرية العيش الانساني؟. فلو نحن سلمنا بأن الانسان يصنع واقعه بنفسه فاننا سنقع في اشكاليتين ميتافيزيقيتين هما: أ- عدم كمال الواقع وب- اطلاقية حرية الفعل الانساني. وشيلر يتجاهل الاجابة على هاتين الاشكاليتين ليرى أن حرية الانسان هي امر واقع لانها غير محدودة بواقع ثابت (لأن العالم غير تان لذلك فهو يتغير ويتطور باستمرار مغيرا" معه الواقع). في المقابل نجد أن شيلر لاينكر الحتمية لكنه يجد البينة على محدوديتها في نتائج أبحاث الفيزياء الكوانتية. التي أثرت الفلسفة وقدمت لها أداة ثمينة لاستيعاب منهج العلم وطبيعة المعرفة.
مما تقدم نلاحظ أن الاغراق في الجانب النظري لآراء شيلر يحجب عن البعض علاقة هذا المذهب بدعوة بداية القرن 21 (وما العولمة الا واحدة من تجلياتها) لكن الخلاصة التالية توضح لنا بجلاء هذه العلاقة وهي اختصارا" التالية: " ان عدم تمام العالم وحاجته الى التطور تحولان الواقع الى عدم الثبات والى امكانية التحكم به وتشكيله. بحيث يمكننا ان نصنع منه ما نشاء. بل اننا نبدل فيه ونبتدع منه على الدوام ودون توقف. وبما أن عالمنا مستمر في نموه وتطوره فأن عملية ابتداعنا للواقع غير قابلة للتوقف أو الانتهاء. وبذلك يكون المستقبل مجموعة ممكنات (أو احتمالات) يمكننا أن نحول بعضها الى واقع وبعضها الآخر الى مستحيل (المستقبليات من تجليات هذا المذهب) أما عن اتجاه هذا التحويل فهو يتعلق بعوالمنا الفردية ومنها الاعتقادات المصنفة أعلاه.
ونعود الى مباديء نمط الحياة الأميركي لنناقشها واحدة بعد الأخرى ولنبدأ ب:
1-احترام معتقدات الغير شرط أن يكون صادقا" في اعتناقه لها.
وهنا يطرح السؤال من يحدد هذا الصدق ومقداره؟. ومن يتولى مهمة توزيع المعتقدات وفق تصنيفاتها المذكورة اعلاه؟. وغموض الأجوبة على هذه الأسئلة يكاد يساوي شرعية احتقار آراء الغير ومعتقداته (لدرجة الغائها) ان هي لم تتوافق مع معايير التصنيف وفق رؤية الطرف الأقوى لها!؟. بل أن سؤالا" اكثر جذرية يطرح نفسه وهو: هل تعني الحرية الانسانية وجوب الحصول على الاعتراف بالمعتقدات؟. واذا كان ذلك واجبا" فمن هي الجهة المانحة لهذا الاعتراف؟. وما هي الاثباتات والقرائن الواجب على صاحب الاعتقاد تقديمها لنيل هذا الاعتراف؟. واذا كان هذا المذهب شريكا" للسيكولوجيا (شراكة الموضوع وهو الانسان) فاننا نسأله عن سبب اهماله للغرائز الانسانية وهي محركات اكثر فعالية من الاعتقادات. فماذا عن غرائز البقاء واستمرارية النوع لدى شعوب يأكلها المرض والمجاعات فتتعرض لمساومات تبديل اعتقاداتها حتى يسمح لها بالاستمرار في الحياة!. فهل هذه هي الليبيرالية؟.